بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف وأعظم وأجل خلق الله أجمعين، سيدنا
ومولانا وسندنا وشفيعنا محمد صلى الله على حضرته وعلى آل بيته أنجم الهداية، وعلى
صحابته أساطين المعارف والولاية، وعلى جمع الأنبياء والمرسلين.
أما
بعد: فيقول العبد الفقير إلى الله: فتحي بن سعيد بن عمر بن أحمد بن خليل الحُجَيْري
الأزهري المالكي القَاوقجي الشَّاذِلي -عفا
الله عنه ورضي عن والِدِيه-.
لمَّا
كان من أدب أهل السنة والجماعة -رضي
الله عنهم- التأدب مع أصحاب سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- والسكوت عمَّا شجر
بينهم، ووجوب تأويل الأحاديث التي فيها دخل على صحابي، كما ذكر شيخ الإسلام الإمام
شرف الدين النووي -رحمه الله تعالى- فقد قال: (قَالَ الْعُلَمَاءُ الْأَحَادِيثُ
الْوَارِدَةُ الَّتِي فِي ظَاهِرِهَا دَخَلٌ عَلَى صَحَابِيٍّ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا
قَالُوا وَلَا يَقَعُ فِي رِوَايَاتِ الثِّقَاتِ إِلَّا مَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ).([1])
أحببت
أن أضع رسالة صغيرة الحجم في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري،
في صحيحه، والذي ورد فيه قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- «لا
أشبع الله بطنه» في حق الصحابي معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-
دفعا
لما يثيره الشيعة الروافض ومن تأثر بهم، من تمسكهم بهذا الحديث الشريف في طعنهم
على سيدنا معاوية بن أبي سفيان -رضي
الله عنه-، وأسأل الله -تعالى- أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وألا يجعل
في قلوبنا غلا للذين ءامنوا، وأن يحفظنا من الوقوع في أعراض أصحاب سيدنا رسول الله
–صلى الله عليه وآله وسلم-.
فأقول
مستعينا بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم:
أخرج
الإمام مسلم في صحيحه قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، ح
وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا:
حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ
الْقَصَّابِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ،
فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَارَيْتُ خَلْفَ
بَابٍ، قَالَ فَجَاءَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً، وَقَالَ: «اذْهَبْ وَادْعُ لِي
مُعَاوِيَةَ» قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: هُوَ يَأْكُلُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِيَ:
«اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ» قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: هُوَ يَأْكُلُ،
فَقَالَ: «لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ» قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: قُلْتُ
لِأُمَيَّةَ: مَا حَطَأَنِي؟ قَالَ: قَفَدَنِي قَفْدَةً.([2])
وللجواب
على ما يثيره الشيعة الروافض وأذنابهم:
أولا: أخرج الإمام مسلم هذا الحديث في (كتاب البر
والصلة)، في باب (من لعنه النبي -صلى
الله عليه وسلم-، أو سبه، أو دعا عليه، وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاة وأجرا
ورحمة).
والإمام
مسلم ذكر في هذا الباب عدة أحاديث توافق ترجمة هذا الباب، بدء
بحديث السيدة عائشة –رضي الله عنها- فقال:
حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ،
عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فَكَلَّمَاهُ
بِشَيْءٍ، لَا أَدْرِي مَا هُوَ فَأَغْضَبَاهُ، فَلَعَنَهُمَا، وَسَبَّهُمَا،
فَلَمَّا خَرَجَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَصَابَ مِنَ الْخَيْرِ
شَيْئًا، مَا أَصَابَهُ هَذَانِ، قَالَ: «وَمَا ذَاكِ» قَالَتْ: قُلْتُ:
لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا، قَالَ: " أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ
عَلَيْهِ رَبِّي؟ قُلْتُ: اللهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ
لَعَنْتُهُ، أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا "([3])
وذكر
الإمام مسلم حديث اليتيمة فقال: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو مَعْنٍ
الرَّقَاشِيُّ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ
يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي
طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ
يَتِيمَةٌ، وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ، فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْيَتِيمَةَ، فَقَالَ: «آنْتِ هِيَهْ؟ لَقَدْ كَبِرْتِ، لَا كَبِرَ
سِنُّكِ» فَرَجَعَتِ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي، فَقَالَتْ أُمُّ
سُلَيْمٍ: مَا لَكِ؟ يَا بُنَيَّةُ قَالَتِ الْجَارِيَةُ: دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ
اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنِّي، فَالْآنَ لَا
يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا، أَوْ قَالَتْ قَرْنِي فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ
مُسْتَعْجِلَةً تَلُوثُ خِمَارَهَا، حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ» فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ
أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِي قَالَ: «وَمَا ذَاكِ؟ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ» قَالَتْ:
زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنُّهَا، وَلَا يَكْبَرَ قَرْنُهَا،
قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ:
" يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي، أَنِّي
اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَى كَمَا يَرْضَى
الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ
عَلَيْهِ، مِنْ أُمَّتِي، بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا
وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
وقَالَ أَبُو مَعْنٍ: يُتَيِّمَةٌ، بِالتَّصْغِيرِ، فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ
مِنَ الْحَدِيثِ.([4])
فقد تبين من هذا الحديث أن قول النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-: «لَقَدْ كَبِرْتِ، لَا كَبِرَ سِنُّكِ»، لا يفهم على ظاهره أنه دعاء عليها، وقد بين ذلك
سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- في نفس الحديث.
هذا وقد ذكر الإمام مسلم –رحمه
الله تعالى- حديث معاوية الذي فيه قول النبي –صلى الله
عليه وآله وسلم-: «لا أشبع الله بطنه»، في آخر هذا الباب، وفعل الإمام مسلم قد دل
على أن هذا القول من النبي –صلى الله عليه وآله
وسلم- لا يفهم على وجه الحقيقة أنه دعاء على معاوية بن أبي سفيان، أو أنه داخل في
أن من لعنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو سبه، أو دعا عليه، وليس هو أهلا لذلك،
كان له زكاة وأجرا ورحمة.
ومعروف
أن العلماء امتدحوا صنيع الإمام مسلم في حسن تبويب كتابه وترتيبه، فقد جاء في
"نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر":
(وكذلك
ما نُقِلَ عن بعض المغاربة أنه فَضّلَ صحيحَ مسلمٍ على صحيح البُخَارِيّ فذلك فيما
يَرْجعُ إلى حُسْن السياقِ، وجَوْدَةِ الوضع والترتيب).([5])
ومع
أن حديث (لا أشبع الله بطنه) يلي مباشرة حديث (لا كبر سنك) فهذا دعاء وهذا دعاء في
الظاهر وهذا قول الرسول الكريم وذاك قوله، لكن الشيعة شنعوا بهذا الحديث على
الصحابي معاوية بن أبي سفيان، وتركوا كل أحاديث الباب.
قال
الإمام شرف الدين النووي -رحمه الله تعالى-:
(وَقَدْ
فَهِمَ مُسْلِمٌ -رَحِمَهُ اللَّهُ- مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ
يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الباب
وجعله غيره من مناقب معاوية لأنه فِي الْحَقِيقَةِ يَصِيرُ دُعَاءً لَهُ).([6])
هذا
هو الفهم الدقيق من الإمام مسلم في جعل هذا الحديث في هذا الباب وفي هذا الكتاب.
ونبينا
الصادق الذي لا ينطق عن الهوى أخبرنا وهو الصادق أنه مثل هذا الدعاء الذي يصدر منه
إنما هو رحمة وقربة فقد قال -صلى
الله عليه وآله وسلم- «فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ
بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
فإن
كنت تؤمن ببعض أحاديث سيدنا رسول الله وتكفر ببعضها، فهذا إنما يدل على اتباع
الهوى، والتلبيس على الناس.
ثانيا: أعلم وفقني الله وإياك:
هناك أدعية كثيرة صدرت من سيدنا رسول الله لا
يراد بها حقيقتها.
فقد
ورد عنه:
(تربت
يداك، تربت يمينك، رغم أنفك، ثكلتك أمك)
وغير ذلك من الدعاء الذي في ظاهره فيه الهلاك والذلة، وهو لا يراد به الدعاء حقيقة وإنما كلمات كان
تقال في مواقف معينة، ومثل هذا كان مشتهرا معروفا عند العرب في الجاهلية والإسلام.
ومن
هذه الجمل التي كان لا يقصد ظاهرها:
أرب
مالَه: أَي سَقطت أعضاؤُه وأُصِيبت.
تربت
يداك: فَإِن أَصله أَنه يُقَال للرجل إِذا قل مَاله: ترب أَي افْتقر حَتَّى لصق
بِالتُّرَابِ. قَالَ اللَّه -عز وَجل-. {أوْ مِسْكِيْناً ذَا مَتْرَبَةٍ}
لَا
أَرض لَك.
لَا
أم لَك.
لَا
أَب لَك.
عقرى
حلقى: أَي عقرهَا الله وأصابها فِي حلقها بوجع.
قَاتله
الله.
ربت
عَن ذِي يَديك.
ثكلتك
أمك.
ويل
أمه مسعر حَرْب.
هوت
أمه.
لا
أشبع الله بطنه: كما ذكر الإمام النووي، والحافظ العراقي.
ترب
جبينك: وَأَصله الْقَتِيل يقتل فَيَقَع على وَجهه.
ولا
دَرَّ دَرُّكَ.
هبلته
أمه.
إذا
فجملة (لا أشبع الله بطنه) من هذه الجمل التي لا يراد بها حقيقة الدعاء على الغير.
قال
شيخ الإسلام
الإمام شرف الدين النووي –رحمه
الله تعالى-:
وَالثَّانِي:
أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ سَبِّهِ وَدُعَائِهِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ
هُوَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي وَصْلِ كَلَامِهَا بِلَا نِيَّةٍ
كَقَوْلِهِ: (تَرِبَتْ يَمِينُكَ) (وعَقْرَى حَلْقَى) وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ:
(لَا كَبِرَتْ سِنُّكِ) وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ (لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بطنه)
ونحو ذلك لا يقصدون بشيء مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الدُّعَاءِ فَخَافَ -صَلَّى
اللَّهُ عليه وسلم- أن يصادف شئ مِنْ ذَلِكَ إِجَابَةً فَسَأَلَ رَبَّهُ
-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَرَغِبَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ رَحْمَةً
وَكَفَّارَةً وَقُرْبَةً وَطَهُورًا وَأَجْرًا وَإِنَّمَا كَانَ يَقَعُ هَذَا
مِنْهُ فِي النَّادِرِ وَالشَّاذِّ مِنَ الْأَزْمَانِ وَلَمْ يَكُنْ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا لَعَّانًا وَلَا
مُنْتَقِمًا لِنَفْسِهِ).([7])
مما
تقدم يتبين أنه لا مستند للشيعة في الحديث، في الطعن على الصحابي -معاوية بن أبي سفيان-.
كتبه العبد الفقير:
فتحي بن سعيد بن عمر الحجيري
الأزهري الشاذلي
الجمعة (23) من شهر ذي الحجة سنة
(1440هــ)، 23-8-2019م
القاهرة دار السلام
([3])
انظر: المرجع السابق، (ج4/ص 2010)، كتاب (البر والصلة)، باب (من لعنه النبي -صلى
الله عليه وسلم-، أو سبه، أو دعا عليه، وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاة وأجرا
ورحمة)، حديث رقم ((2600).
تعليقات
إرسال تعليق