كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي الغاسل
ورد هذا الأدب في كتب القوم -رضي الله عمهم- وهو أدب عظيم، يطوى للمريد صفات نفسه، ويهون عليه مصاعب الطريق، لكن هذا الأدب الكريم، والخلق العظيم، أساء إليه سارقوا المشيخة، وأصحاب الدعاوي العريضة، وأرباب النفوس الظلمانية، فسيطروا على مريديهم، وعقلوا عقولهم، وجعلوهم مسخا، إن اعترض عليه المريد في مخالفة بينة صريحة ليس لها تأويل سائغ، هدده بقوله: (من يعترض يطرد)، إلى غير ذلك من أساليب الإرهاب والتخويف للمريد، وقد يتوجه إليه صاحب الظلمانية هذا بنفسه الخبيثة فيقع الضرر بالمريد، فيظن المريد وأتباع الشيخ إنما حصل هذا بسبب اعتراضه، ولا يدر أنه حصل بسبب توجه نفساني ظلماني، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وحتى يتضح الأمر فأهل التصوف الحق هم أهل أدب وتواضع وفناء عن أنفسهم، لا يتصور منهم استعباد المريد، ولا صرفه في حوائجهم، ولا يطمسون شخصيته، وأما عن هذا الأدب في السلوك فهو أدب حق لكن البعض جعل هذا الحق باطلا.
فمقصود القوم من قولهم: كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي الغاسل.
هو في الحقيقة، مستمد من قول الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
فهو في الأصل أن المسلم كل مسلم يجب عليه التسليم لله ورسوله، فلا يخالف الشرع في كبيرة ولا صغيرة، وإن خالف فيجب عليه التوبة بشروطها، والشيخ المربي العارف بالله العالم بأحكام الشرع والمبلغ لدين الله هو خليفة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- والخليفة قائم بحق الخلافة من تبليغ الشرع الشريف على من غير زيادة ولا نقصان، وهنا الكلام على من تحققت فيه شروط المشيخة وليس كل من جلس في ساحة والتف حوله المريدون وهو خال الوفاض، لا في العير ولا في النفير، هذا الشيخ المربي وضع له القوم شروطا لا بد من التحقق بها حتى يسلم له المريد نفسه ليزكيها ويهذبها، ويعلمه ما يجب عليه من أمور الشرع من العقيدة والفقه، والمعاملات.
وقد شحن العارفون كتبهم في بيان شروط هذا المربي، وحتى يعرف المدعون للمشيخة، شروط هذا العالم الذي ينطرح المريد بين يديه ويسلم له فعليه أن يتمعن ويتدبر هذه الشروط:
فقد جاء في "بغية السالك في أشرف المسالك" (ص: 183):
فإن قلت: حد لي هؤلاء الأطباء بالأوصاف التي يعرفون بها، وحلهم بالحلى التي يمتازون بها، لأن الدعوى قد كثرت في هذه الوراثة حتى أشكل الأمر، والتعرض لعلاج من لا يعرف أمره، تغرير منهي عنه.
فالجواب: أن المقصود الأعظم من الشريعة هو تطهير النفس من كدرات متعلقات الجسم، بالتزكية عن الأوصاف الذميمة، والتحلية بالأوصاف الحميدة، حتى تصل إلى معرفة الله –تعالى-. وهذا لا يكون إلا بعد معرفة النفس ومعرفة عللها على اختلاف المفرد من ذلك والمركب، ومعرفة الأدوية والأغذية، وما يختص بزوال كل علة مركبة أو مفردة من تلك الأدوية والأغذية. ولا يحكم ذلك إلا الرباني الذي نور الله باطنه بأنوار معرفته، وخصه بآثار حكمته، وأطلعه على أسرار الشريعة، ووقفه على معاني الكتاب والسنة. ولا يكون ذلك إلا ممن سلك مقامات الدين، وقطع منازل السالكين، وتخلص من نفسه على يدي وارث آخر حتى صار على بينة من ربه، وأهله الله لهداية غيره، وخصه بالقوة المقتضية ذلك، وحصل له الإذن الصحيح الصريح في ذلك من قدوته.
ومهما قصر عن هذه الأوصاف، فإنه معلول يحتاج إلى طبيب يطبه. وبما بقي فيه من البقية لا يخلو عن غلط. فقد عرفت الطبيب، وهو الوارث الكامل. وقد يسمى وارثا من حصل على بعض الأوصاف المذكورة بنوع من المجاز، لكن منفعته مقصورة على نفسه. وقد ينتفع به في القليل الخاص، وأما الانتفاع العام الكثير، فلا يكون إلا من الوارث الكامل الذي رسخ علمه، وقوي عقله، وتطهرت نفسه، وصدقت فراسته، وترجح رأيه، وسلمت فطنته، وامتحى هواه، وانشرح صدره بأنوار المعارف ونفحات الأسرار، وأخذ عن شيخ وارث بهذه الصفات، وأذن له في الانتصاب لهداية الخلق بتخليص أنفسهم من عللها. وهذه هي الوارثة الحقيقية فعليك باتخاذ من هو بهذه الأوصاف قدوة ووسيلة إلى الله تعالى في خلاص نفسك وطهارتها. انتهى.
فالأصل هو التسليم لأحكام الشرع الشريف لا التسليم للشيخ نفسه، وإنما مجازا يقال التسليم للشيخ، وفي الحقيقة هو إنما التسليم هو لعلمه بالشرع الشريف، وقد وضح هذا المعنى الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين ابن العربي فقال في "الفتوحات المكية" - طبعة الميمنية الأولى (2/ 233): (فحقيقة الفتوة أن يؤثر الإنسان العلم المشروع الوارد من الله على السنة الرسل على هوى نفسه وعلى أدلة عقله، وما حكم به فكره ونظره إذا خالف علم الشارع المقرر له هذا هو الفتى فيكون بين يدي العلم المشروع كالميت بين يدي الغاسل).
فهنا يبين أن التسليم إنما يكون للعلم المشروع، ولا يقدم الإنسان هواه، وما حكم به فكره، إن خالف الشرع الشريف، وليكن يدي العلم المشروع كالميت بين يدي الغاسل.
فلا تظنن أن أهل الله -رضي الله عنهم- يدعون الناس للتسليم لهم بالكلية، وإنما هو التسليم للعلم الشرعي والوراثة المحمدية، فهو يدعون لله ورسوله لا لأنفسهم، هم أدلاء على الطريق، هم أطباء يعرفون الأمراض وأدويتها، فكل شيخ يوقف مريدا عنده دون أن يوجه قلبه للحضرة المحمدية، فهو خائن لطريق القوم، وهذا إنما يبني مملكة له، كملوك الدنيا أصحاب الجاه الدنيوي. والله أعلم
وحتى يتضح الأمر فأهل التصوف الحق هم أهل أدب وتواضع وفناء عن أنفسهم، لا يتصور منهم استعباد المريد، ولا صرفه في حوائجهم، ولا يطمسون شخصيته، وأما عن هذا الأدب في السلوك فهو أدب حق لكن البعض جعل هذا الحق باطلا.
فمقصود القوم من قولهم: كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي الغاسل.
هو في الحقيقة، مستمد من قول الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
فهو في الأصل أن المسلم كل مسلم يجب عليه التسليم لله ورسوله، فلا يخالف الشرع في كبيرة ولا صغيرة، وإن خالف فيجب عليه التوبة بشروطها، والشيخ المربي العارف بالله العالم بأحكام الشرع والمبلغ لدين الله هو خليفة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- والخليفة قائم بحق الخلافة من تبليغ الشرع الشريف على من غير زيادة ولا نقصان، وهنا الكلام على من تحققت فيه شروط المشيخة وليس كل من جلس في ساحة والتف حوله المريدون وهو خال الوفاض، لا في العير ولا في النفير، هذا الشيخ المربي وضع له القوم شروطا لا بد من التحقق بها حتى يسلم له المريد نفسه ليزكيها ويهذبها، ويعلمه ما يجب عليه من أمور الشرع من العقيدة والفقه، والمعاملات.
وقد شحن العارفون كتبهم في بيان شروط هذا المربي، وحتى يعرف المدعون للمشيخة، شروط هذا العالم الذي ينطرح المريد بين يديه ويسلم له فعليه أن يتمعن ويتدبر هذه الشروط:
فقد جاء في "بغية السالك في أشرف المسالك" (ص: 183):
فإن قلت: حد لي هؤلاء الأطباء بالأوصاف التي يعرفون بها، وحلهم بالحلى التي يمتازون بها، لأن الدعوى قد كثرت في هذه الوراثة حتى أشكل الأمر، والتعرض لعلاج من لا يعرف أمره، تغرير منهي عنه.
فالجواب: أن المقصود الأعظم من الشريعة هو تطهير النفس من كدرات متعلقات الجسم، بالتزكية عن الأوصاف الذميمة، والتحلية بالأوصاف الحميدة، حتى تصل إلى معرفة الله –تعالى-. وهذا لا يكون إلا بعد معرفة النفس ومعرفة عللها على اختلاف المفرد من ذلك والمركب، ومعرفة الأدوية والأغذية، وما يختص بزوال كل علة مركبة أو مفردة من تلك الأدوية والأغذية. ولا يحكم ذلك إلا الرباني الذي نور الله باطنه بأنوار معرفته، وخصه بآثار حكمته، وأطلعه على أسرار الشريعة، ووقفه على معاني الكتاب والسنة. ولا يكون ذلك إلا ممن سلك مقامات الدين، وقطع منازل السالكين، وتخلص من نفسه على يدي وارث آخر حتى صار على بينة من ربه، وأهله الله لهداية غيره، وخصه بالقوة المقتضية ذلك، وحصل له الإذن الصحيح الصريح في ذلك من قدوته.
ومهما قصر عن هذه الأوصاف، فإنه معلول يحتاج إلى طبيب يطبه. وبما بقي فيه من البقية لا يخلو عن غلط. فقد عرفت الطبيب، وهو الوارث الكامل. وقد يسمى وارثا من حصل على بعض الأوصاف المذكورة بنوع من المجاز، لكن منفعته مقصورة على نفسه. وقد ينتفع به في القليل الخاص، وأما الانتفاع العام الكثير، فلا يكون إلا من الوارث الكامل الذي رسخ علمه، وقوي عقله، وتطهرت نفسه، وصدقت فراسته، وترجح رأيه، وسلمت فطنته، وامتحى هواه، وانشرح صدره بأنوار المعارف ونفحات الأسرار، وأخذ عن شيخ وارث بهذه الصفات، وأذن له في الانتصاب لهداية الخلق بتخليص أنفسهم من عللها. وهذه هي الوارثة الحقيقية فعليك باتخاذ من هو بهذه الأوصاف قدوة ووسيلة إلى الله تعالى في خلاص نفسك وطهارتها. انتهى.
فالأصل هو التسليم لأحكام الشرع الشريف لا التسليم للشيخ نفسه، وإنما مجازا يقال التسليم للشيخ، وفي الحقيقة هو إنما التسليم هو لعلمه بالشرع الشريف، وقد وضح هذا المعنى الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين ابن العربي فقال في "الفتوحات المكية" - طبعة الميمنية الأولى (2/ 233): (فحقيقة الفتوة أن يؤثر الإنسان العلم المشروع الوارد من الله على السنة الرسل على هوى نفسه وعلى أدلة عقله، وما حكم به فكره ونظره إذا خالف علم الشارع المقرر له هذا هو الفتى فيكون بين يدي العلم المشروع كالميت بين يدي الغاسل).
فهنا يبين أن التسليم إنما يكون للعلم المشروع، ولا يقدم الإنسان هواه، وما حكم به فكره، إن خالف الشرع الشريف، وليكن يدي العلم المشروع كالميت بين يدي الغاسل.
فلا تظنن أن أهل الله -رضي الله عنهم- يدعون الناس للتسليم لهم بالكلية، وإنما هو التسليم للعلم الشرعي والوراثة المحمدية، فهو يدعون لله ورسوله لا لأنفسهم، هم أدلاء على الطريق، هم أطباء يعرفون الأمراض وأدويتها، فكل شيخ يوقف مريدا عنده دون أن يوجه قلبه للحضرة المحمدية، فهو خائن لطريق القوم، وهذا إنما يبني مملكة له، كملوك الدنيا أصحاب الجاه الدنيوي. والله أعلم
تعليقات
إرسال تعليق