(من فرح بنا فرحنا به).
لا أحسب أن مسلما على وجه الأرض لا يفرح
بمولد سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-، لأنه منة الله العظمى لجميع
العوالم علويها وسفليها، وما هناك حدث مر على تاريخ الكون كله أعظم ولا أجل ولا
أشرف من يوم مولد السراج المنير، الذي كان مولده نور رباني سيبدد الظلم والظلمة،
كيف لا وقد رأت أمه هذا النور المحمدي الذي سطع على الكون، ففي "المستدرك على
الصحيحين" للحاكم (2/ 453):
عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ-، صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ:
«إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَأَبِي مُنْجَدِلٌ فِي
طِينَتِهِ وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ،
وَبِشَارَةُ عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي آمِنَةَ الَّتِي رَأَتْ» وَكَذَلِكَ
أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ، وَأَنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْهُ لَهُ نُورًا أَضَاءَتْ لَهَا قُصُورُ
الشَّامِ، ثُمَّ تَلَا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا
وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}
[الأحزاب: 46] «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ»
أما عن قول النبي –صلى الله عليه وآله
وسلم- للرجل الصالح أبي موسى الزرهوني: (من فرح بنا فرحنا به):
فقد ذكر هذا الشيخ الصالحي –رحمه الله- في
"سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد" (1/ 363) فقال: سمعت شيخنا أبا
عبد الله بن أبي محمد النّعمان يقول: سمعت الشيخ أبا موسى الزّرهونيّ يقول: رأيت
النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم فذكرت له ما يقوله الفقهاء في عمل الولائم في
المولد فقال صلى الله عليه وسلم: «من فرح بنا فرحنا به»
فأنت كما ترى هو رؤيا في المنام، ورؤيا
سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- حق لا يتمثل في صورته الشيطان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «سَمُّوا بِاسْمِي وَلاَ
تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي، وَمَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
ولا شك ولا ريب فكل من له أدنى علم
بالرؤى فهذه رؤيا صالحة ومن رجل عالم صالح، والرؤيا الصالحة من المبشرات، وهذه
الرؤيا فيها بشارة عظيمة لكل أمة سيدنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- فعـن أبي
هريـرة رضي الله عنه قـال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-: يقول: «لم
يبق من النبوة إلا المبشرات»، قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة» أخرجه البخاري
في صحيه.
وأخرجه مالك في الموطأ مختصرًا ولفظه:
«ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة».
وقال رسول الله -صلى الله عليه وآله
وسلم- : (الرؤيا ثلاث: فرؤيا حق، ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من
الشيطان....).قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"
هذه الرؤيا لا تخالف كتاب الله ولا سنة
سيدنا رسول الله ولا تخالف أقوال الفقهاء من أئمة الدين، ولا حتى تخالف العرف،
وإذا كان ذلك كذلك، فلا مانع من تقبل هذه البشارة المحمدية العظيمة الجليلة، ورواياتها
والاستشهاد بها، لكن من الأمانة العلمية رواياتها كما هي عن صاحبها.
وعن العمل بالرؤيا الصالحة يقول الإمام
الشاطب –رحمه
الله- (الاعتصام) للشاطبي, (ج:1) ( ص:260-261): (الرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِ
الْأَنْبِيَاءِ لَا يُحْكَمُ بِهَا شَرْعًا عَلَى حَالٍ؛ إِلَّا أَنْ تُعْرَضَ
عَلَى مَا فِي أَيْدِينَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ سَوَّغَتْهَا
عُمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، وَإِلَّا؛ وَجَبَ تَرْكُهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا،
وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا الْبِشَارَةُ أَوِ النِّذَارَةُ خَاصَّةً، وَأَمَّا
اسْتِفَادَةُ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا).
وقد ذكر الشاطبي - رحمه الله - قصة
الكتّاني فقال: " يُحْكَى عَنِ الْكَتَّانِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ:
" رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: ادْعُ
اللَّهَ أَنْ لَا يُمِيتَ قَلْبِي، فَقَالَ: قُلْ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعِينَ
مَرَّةً: يَا حَيُّ! يَا قَيُّومُ! لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ " ثم علّق عليها
بقوله: " فَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ لَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، وَكَوْنُ
الذِّكْرِ يُحْيِي الْقَلْبَ صَحِيحٌ شَرْعًا، وَفَائِدَةُ الرُّؤْيَا
التَّنْبِيهُ عَلَى الخير وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبِشَارَةِ، وَإِنَّمَا يَبْقَى
الْكَلَامُ فِي التَّحْدِيدِ بِالْأَرْبَعِينَ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدُ عَلَى
اللُّزُومِ اسْتَقَامَ"
ومع أن ما رآه الإمام الكتاني كان رؤيا
منام لكن عمل بهذه الرؤيا لأنها لا تخالف الكتاب ولا السنة النبوية وممن عمل بها
ابن القيم وشيخه ابن يمية فقد قال ابن القيم في "مدارج السالكين بين منازل
إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 446)
ومن تجريبات السالكين التي جربوها
فألفوها صحيحة أن من أدمن يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت أورثه ذلك حياة القلب
والعقل.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله
روحه شديد اللهج بها جدا، وقال لي يوما: لهذين الاسمين وهما الحي القيوم تأثير
عظيم في حياة القلب، وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم، وسمعته يقول: من واظب على
أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت،
برحمتك أستغيث حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه.
فالعمل والاستشهاد بالرؤيا الصالحة ما
لم تخالف الكتاب والسنة هو صنيع الأئمة الأعلام في كل عصر ومصر من عصر الصحابة إلى
عصرنا هذا وكتب الطبقات والتواريخ طافحة بالأمثلة عن الصحابة والتابعين والتابعين
لهم بإحسان إلى يوم الدين.
هذا والله أعلم.
كتبه في عجالة.
أبو صهيب الحجيري الأزهري.