النـــور
الأســنى
النور هو المعروف والغني عن التعريف وهو الذى لا
تستغن عنه العين حينما تسعى إلى المحسوس موضعا، والملموس عقلا.
وهو الذى ينشر الأمان، ويحقق السكينة والاطمئنان،
ولا يستغن عنه كائن حي ولا جماد متحجر ليتميز عن غيره لوناً وشكلاً.
ومصادر هذا النور معروفة
للناس عامة ولا داعى للحديث عنها.
ولكن يجب أن نتعرف على النور الأسنى وهو: النور الوضاء الذى يزداد
سطوعا وتلألؤا كلما اقترب العبد من ربه تشوقا إلى مناجاته، وتطلُعا إلى فضله
وفيوضاته.
وهذا النور هو الذى يرى به القلب، وتنظر به البصيرة في دقائق الأمور،
ورقائق الحكم، وهو الذى يمنحه الله -سبحانه وتعالى- لمن شاء من عبادة اصطفاء لهم
ليكون حاملا لسر البيان، وجوهر التبيان.
وهو ما يسمى بالشرح الذى يستطيع العبد التلقي به عن ربه فقه خطابه،
وبيان مراده.
وهذا النور هو حياة القلوب وسراج العقول، ومداد الفحول.
وهو البينة التي أرادها الله -سبحانه وتعال-ى في قوله –تعالى-: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ
حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}
[فاطر: 8].
وفي قوله –تعالى-: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ
وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي
الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 122].
وهذا النور نتاج تأمل ونظر، وموعظة وعبر، ولا يرى به إلا الرجال، ولا
يشهده إلا ذوى الأدب والخصال، الذين قال عنهم المولى -عز وجل- {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ
الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } [فاطر: 32]. وقال –تعالى-: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى
اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ
هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90].
ومَسرَج هذا النور هو الإخلاصُ في العبادة، والصدق في الأقوال
والأفعال، ومراقبة الله ذي العزة والجلال.
وهذا النور أيضا مدد من نور الله الذى أشرقت به الظلمات، وصلح به أمر
الدنيا والآخرة.
نور مصدره الرحمن وسراجه العدنان -صلى الله عليه وسلم _ وكواكبه قلوب
أهل العرفان، ولا يتحقق إلا بالاستقامة وخشية الديان.
والإنسان في حاجة ملحة إلى هذا النور، حتى يكون إنسانا له كرامته،
ومقامه بين الصالحين.
وليجد الإنسان حاجته من هذا النور فعليه أن يسلك مسلك الصالحين، وأن
يعرف طريقة المخلصين، ليتوسل بها إلى الخلاص من رق الهوى لقلبه، وسيطرة النفس على
آليات تفكيره.
فمتى تحرر القلب من رق الهوى، وتخلص من سيطرة النفس، تفتحت عيون
بصيرته، وانزاح حجاب الغفلة من على قلبه، وانبثق النور منه بمدد ربه، رأى من
الأسرار ما كان محجوبا عنه، وأدرك بالإلهام ما كان محروما منه، وانتشى بتجليات
الأنوار القدسية، وتذوق قلبه حلاوة الإيمان، وقويت همته، واشتدت عزيمته، ونشطت
آليات مدركاته، فاستقبل عن الله هداه، وتخلص بفضل الله من رق هواه، وترقى حاله،
وسمى عقله بنور مولاه.
فاستقبل الخطاب بيانا، وأدرك المحجوب عيانا، وخشع للرحمن عبدا، وتلقى
عن ربه إحسانا وودا، وراح يزداد بالإيمان حبا وقربا، قال –تعالى-: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}
[البقرة: 165].
فالنور الأسنى قبس من نور المولى -عز وجل- يصل إلى قلوب أهل الذكر عند
تلاوته، فتطلع في سماء الآيات نجوم الهداية، فيتلونه حق تلاوته قال –تعالى-: {الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 121].
ويسري هذا النور إلى قلوب المحبين بواسطة تحققهم بأدب خير المرسلين -صلى
الله عليه وسلم - فيتحقق لهم الإيمان الكامل، لأن هواهم صار مشفوعا بهدى مولاهم،
سيدنا محمد الهاشمى القرشي -صلى الله عليه وسلم- و الذى قال:
((لا يؤمنُ أحدُكُمْ حتَّى يكونَ هواهُ
تَبَعًا لما جئتُ بهِ)) قال الحافظ فى "الفتح " (13 / 289): صححه النووي
في آخر الأربعين.
والصالحون هم أنور الناس طريقة، وأكمل الناس عقلا، وأصدق الناس حالا
وشأنا، حيث أنهم مَشرِقُ أنوار السنة، ومواضع كل خير ورحمة.
قلوبهم بنور الله ملحوظة، وهى من كل زيغ وضلال محفوظة، وجوارحهم
برعاية الله مشمولة، من اتبع طريقهم بلغ منزلتهم.
الحياء من الله طريقتهم، والصبر على مناجاته عزيمتهم، والرضا بما قضى
لهم غنيمتهم.
وهم كواكب السُّنة، ومراتع العطاء والمنة، وهم خير الصحاب، وباكورة
الأحباب، فتح الله بينهم وبين علمه أوسع باب.
فمن حذا طريقتهم أحبه الله، ومن عدل عن طريقتهم مقته الله، لأن
طريقتهم انبثقت من إيمانهم بربهم، و بإقتدائهم برسولهم -صلى الله عليه وسلم-.
اتخذوا الحياء من الله دثارا،
واتخذوا حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منارا، ورضوا بالقليل من الدنيا حظا
وشعارا، واجتهدوا فيها تحصيلا لمراتب
الإيمان هداية واستبصارا.
وكانت طريقتهم مددا واصلا من الحبيب الأعظم والسيد الأكرم سيدنا محمد
-صلى الله عليه وسلم- وتجلت على أخلاقهم أدبا وأنوارا.
فهم دوحة السنة الشريفة، وشجرة الحكمة النفيسة.
تجلت أنوار الجمال فى وجوههم
حسنا وبهاء، وأشرقت
أنوار المعاني بأخلاقهم فجذبت إليهم قلوبا مؤمنةً مفتقرة إلى المعرفة.