أولا: نص الشُّبهة:
قالوا إن الخلفاء الراشدين وفي مقدمتهم أبي بكر
وعمر وعلي رضي الله عنهم كانوا يتشدَّدون في راوية الحديث حتى أنَّهم ما
كانوا يقبلون الحديث إذا سمعوه من راوٍ واحدٍ، حتى يؤيده راو ثان سمع من رسول الله
مثلما سمع الراوي الأول.
وظن أولئك المنكرون للسُّنة أنَّ هذا التَّشدد
والتَحري في قبول الرِّواية مما يقدح في السُّنة الشَّريفة، وأنَّ هذا التَّبت
والتَّحري في قبول الرِّواية، دليل على عدم حُجيَّة السُّنة، فلو كانت السُّنة لها حجة في الدين، فلماذا تشدد الصحابة في قبولها.
ودليلهم على هذا الزعم مواقف من الخلفاء
الرَّاشدين منها:
1-
ما ورد من تحرٍ من سيِّدنا أبي بكر الصِّديق في مسألة ميراث الجدة فلم يقبل في ذلك رواية
واحد حتى شهد معه آخر، فعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَتِ
الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا،
فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-
، فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ
-صلى الله عليه وآله وسلم- أَعْطَاهَا السُّدُسَ، فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟ فَقَامَ
مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ،
فَأَنْفَذَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ السدس، ثُمَّ جَاءَتِ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى إِلَى
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ فِي
كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَا كَانَ الْقَضَاءُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ لِغَيْرِكِ، وَمَا
أَنَا بِزَائِدٍ فِي الْفَرَائِضِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ السُّدُسُ، فَإِنْ
اجْتَمَعْتُمَا فيه فَهُوَ بَيْنَكُمَا، وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا.([1])
2-
وأنَّ سيِّدنا
عمر بن الخطاب t رضي الله استشار الصَّحابة حين أراد أن يجمع السُّنة
في صحف خاصة بها، فوافقه الصَّحابة على هذا التَّدوين، ولكن عمر ظل يستخير الله شهرا كاملا في كتابة السُّنة
وتدوينها، فلم يحبب إليه كتابتها فانصرف عنها. ([2])
وأنه
كان يحبس المكثرين من رواية الحديث كابن مسعود، وأبي ذر، وأبي الدرداء.
3-
ويذكرون
أنَّ علياً لم يكن يقبل الحديث من راو
واحد، حتى يستحلفه بالله أنه سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-
ثانيا: الجواب عن الشُّبهة:
أولا: إنَّ
التحري والتَّثبت في نقل حديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-
لهو من المناهج العلمية
الرَّصينة، التي تعد مفخرة من مفاخر هذه الأمَّة، فلم نجد أمَّة من الأمم اتخذت
الحيطة والتثبت والتحري في نقل العلم أعظم من هذه الأمَّة، فكون الصَّحابة ومن جاء
بعدهم من التَّابعين وأتباع التابعين إلى آخر عصر الرِّواية بلغوا من التحري
والتَّثبت في نقل كتاب الله وسُّنة سيِّدنا
رسول الله، فهذا أمر ليس فيه عيب ولا شين، وإنما هذا يدل على الصِّدق والأمانة
العلميَّة، ونقل النصوص كما هي لمن بعدهم، والقرآن الكريم قد نبهنا على قضية
التّثبت في نقل الأخبار فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ
ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ
أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ
نَٰدِمِينَ ٦﴾[الحُجُرات: 6]، وقد حذر رسول الله من الكذب عليه بل جعل الكذب عليه
مما يوجب لصاحبه النار فعَنْ عَبْدِ العَزِيزِ، قَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ
أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم-
قَالَ: ((مَنْ تَعَمَّدَ
عَلَيَّ كَذِبًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)). ([3])
ثانيا: إنَّ من أبرز سمات عصر
الخلفاء الرَّاشدين y أنَّهم كانوا يتحرون ويشددون في قبول رواية
الراوي، وهذا له دلائل كثيرة جدا، ووقوع هذا منهم لا يفهم منه قط، عدم اهتمامهم
برواية ما سمعوه من سيِّدنا رسول الله
-صلى الله عليه وآله وسلم-، وهم الذين سمعوا منه قوله: ((نَضَّرَ
اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ
فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)). ([4])
ثالثا: ما ورد عن سيِّدنا أبي بكر من تحريه في مسألة ميراث
الجدة، ولم يكتف براو واحد، بل استوثق براو آخر معه، فهذا من دقة فقه، وسعة علمه، وزيادة
استيثاق منه، يقول الحافظ السيوطي في (تدريب الراوي): وأما قصة أبي بكر فإنما توقف
إرادة للزيادة في التوثق، وقد قبل خبر عائشة وحدها في قدر كفن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-
]. ([5])
ويقول مصطفى السباعي: [فإذا روي عنهم التوقف في
بعض خبر الآحاد، لم يكن ذلك دَلِيلاً على عدم عملهم به، بل لريبة أو وَهْمٍ أو
رغبة في التَثَبُّتِ، وخذ لذلك مثلاً ما استدل به المخالفون من رَدِّ أبي بكر خبر
المغيرة في ميراث الجدة، فالواقع أَنَّ أبا بكر لَمْ يَرُدَّ خبر المغيرة لأنه لا
يقبل خبر الآحاد، بل تَوَقَّفَ إِلَى أَنْ يأتي ما يؤيده ويزيده اعتقاداً بوجود هذا
التشريع في الإسلام وهو إعطاء الجَدَّةَ السُدُسَ، ولما كان هذا تشريعاً لم ينص
عليه القراَن كان لاَ بُدَّ للعمل به وإقراره من زيادة في التثبت والاحتياط، فلما
شهد محمد بن مسلمة أنه سمع هذا من النَّبِيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم-
، لَمْ يَتَرَدَّدْ أبو بكر في العمل بخبر المغيرة].([6])
ثالثا: أمَّا ما روي عن سيِّدنا عمر بن الخطاب t من عزمه على جمع السُّنة وتدوينها، ثم عدل عن
هذا، فقد كان هذا العزم على تدوين السُّنة تدوينا عاما، كما جمعوا القرآن الكريم
في كتاب واحد، بعد أن كان مسطرا في صحائف متفرقة، ومحفوظا في الصدور، لكن لم ينشرح
صدر سيِّدنا عمر لهذا التدوين العام، حتى لا ينشغل الناس بكتاب غير كتاب الله
تعالى، لكن من المؤكد والمعروف أنه لم ينهى عن التدوين الخاص، فقد كان للصحابة
كتبا دونوا فيها السُّنة، وكذلك كانت مدرسة الرِّواية من الصدر للصدر في هذا العصر
هي الغالبة، أكثر من الضبط في كتاب، هذا على تقدير صحة هذه الرِّواية عن سيِّدنا
عمر لكنها رواية منقطعة حيث أن راويها هو عروة بن الزبير وهو بلا شك لم يدرك عمر
رضي الله عنه.
يقول عبد الرحمن المعلمي في (الأنوار الكاشفة): [لكن
الخبر منقطع لأن عروة لم يدرك عمر: فإن صح فإنماً كانت تلك الخشية في عهد عمر ثم
زالت. وقد قال عروة نفسه كما في ترجمته من تهذيب التهذيب: (وكنا نقول لا نتخذ
كتاباً مع كتاب الله، فمحوت كتبي. فوالله لوددت أن كتبي عندي وإن كتاب الله قد
استمرت مريرته) يعني قد استقر أمره وعلمت مزيته وتقرر في أذهان الناس أنه الأصل، والسُّنة
بيان له. فزال ماكان يخشى من أن يؤدي وجود كتاب للحديث إلى أن يكب الناس عليه، ويدعوا
القرآن].([7])
وعلى تقدير صحة ما ورد عن سيِّدنا عمر رضي الله
عنه فإنه يتضح فيها أمورا غاية في الأهمية:
1-
كون سيِّدنا عمر يعزم على جمع السُّنة وتدوينها في
كتب خاصة بها وتبني هذا المشرع الضخم، فهو لدليل ساطع على أنَّ سيِّدنا عمر بن
الخطاب ممن يهتمون بالسُّنة اهتماما بالغا.
2-
وتدل على أن سيِّدنا عمر بن الخطاب من حيث المبدأ
كان يرى تدوين السُّنة، وهذا بخلاف ما زعم منكروا السُّنة من عدم حجيتها،
والاكتفاء بالقرآن الكريم فقط.
3-
لقد أجمع الصحابة بعد مشورتهم على تدوين السُّنة
النَّبوية، غير أنَّ سيِّدنا عمر لم ينشرح صدره بعد استخارة لما ذهب إليه من خوفه
من انشغال الناس عن كتاب الله تعالى، لأنَّ السُّنة حتى ولو لم تكن قد دونها فهي
محفوظة في صدور الصحابة وقد أذن لهم رسول الله بالتحديث عنه وتبليغ السُّنة، بل
دعا لمن بلغ عنه بنضارة الوجه.
4-
عدول سيِّدنا عمر عن التدوين مع إجماع الصحب الكرام
على تدوينها لا ينقض إجماعهم، وعدوله لا يؤثر في هذا الإجماع.
رابعا: أما ما ورد عن سيِّدنا علي بن أبي طالب أنه بلغ من تحريه وتوثيقة أنه كان يستحلف
الرَّاوي فهذا مذهب خاص به حيث أنَّه كان يستوثق من رواية الأعراب، يقول الشيخ
رفعت فوزي عبد المطلب: [ولم يقبل علي حديث أبي سنان لمذهب خاص
اتخذه لنفسه من أجل توثيق سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-
، وهو أنه كان لا يقبل رواية
الأعراب، وكان يحلف الراوي إذا روى له حديثًا إلا أبا بكر رضي الله عنه، فإنه كان
لا يستحلفه، لثقته فيما يرويه عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-
. وقد عمل علي بخبر الواحد، ومن
هذا قبوله رواية المقداد في حكم المذي، وقد قبل ابن مسعود حديث أبي سنان، هذا الذي
رفضه علي، وسر به؛ لأنه لم يكن له مذهب على الذي ذكرناه].([8])
([1]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ حديث رقم (3038)، (ج2/ص530) الناشر: مؤسسة
الرسالة، سنة النشر: 1412 هـ، المحقق: بشار عواد معروف - محمود خليل، وأخرجه أحمد
في مسنده، حديث رقم (17978) (ج29/ص493)، ط: مؤسسة الرسالة،
الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001 م، بتحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون،
إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي
([2]) انظر: تقييد العلم للخطيب
البغدادي، المؤلف: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي
(المتوفى: 463هـ)، (ص49) الناشر: إحياء السُّنة النبوية – بيروت.
([5]) تدريب الراوي في شرح تقريب
النواوي، المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ)،
(ص72) الناشر: دار طيبة ن حققه: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي