أولا: نصُّ الشُّبهة:
زعم أعداء السُّنة أنَّ نصوصًا
في القرآن الكريم، تنهى عن اتباع السُّنة النَّبوية، والاقتصار على القرآن فقط، وممَّا
استدلوا به على زعمهم هذا، قول الله تعالى: ﴿ٱتَّبِعُواْ
مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ
أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ ٣﴾[الأعراف: 3] وقوله الله
تعالى: ﴿أَوَلَمۡ
يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن
شَيۡءٖ
وَأَنۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقۡتَرَبَ أَجَلُهُمۡۖ فَبِأَيِّ حَدِيثِۢ
بَعۡدَهُۥ يُؤۡمِنُونَ ١٨٥﴾[الأعراف: 185]، وزعموا على حسب أفهامهم السَّقيمة، وتفكيرهم المعوج، أنَّ
النَّص القرآني في هاتين الآيتين، يمنع اتباع غير القرآن الكريم، وبالتَّالي فلا
يجوز عندهم على حدِّ تُرَّهاتهم، اتباع ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من السُّنة
النَّبوية.
ثانيا: الجواب عن الشُّبهة:
أولا: قد تصوَّر أصحاب هذه العقول المعوجَّة، أنَّ اتباع
الرَّسول-صلى الله عليه وآله وسلم- والاقتداء به، إنَّما هو اتباع لولي من دون الله
تعالى، وكأنَّ الله -عزل وجل- على حدِّ
زعمهم السَّقيم، ينهى عن اتباع رسول الله وترك سنَّته، والتَّمسك بكتاب الله فقط، ومن
عادة هؤلاء الاستشهاد بنصٍّ ويفهمونه على حسب أهوائهم المريضة، ويتركون عشرات النُّصوص
لا يتعرضون إليها، لأنَّها سوف تنسف مزاعمهم، وتقويض شبهاتهم، وتدحض ضربهم النُّصوص
بالنُّصوص، وكأنَّهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فحُجيَّة السُّنة النَّبوية
منصوص عليها بكتاب الله تعالى، وبسنته الصَّحيحة، ولا ينكر حُجيَّة السُّنة إلا من
كان في قلبه مرض، أو كان صاحب هوى.
ثانيا: إنَّ الأدلة على حُجيَّة السُّنة النَّبوية ثابتة بكتاب
الله تعالى، وبسنة سيِّدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولا ينكرها
عاقلٌ، أو من يتعامى عن هذه النُّصوص البيِّنة الواضحة، فقد نص الله تعالى في آيات كثيرة على طاعة رسول
الله تعالى، بل وقرنها بطاعته في أكثر من موضع في كتاب الله تعالى:
ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ
ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ١٣٢﴾[آل عمران: 132]، وقال اله
تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ
ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ
فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ
وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩﴾[النساء:
59]، وقال تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ
فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ
ٱلۡمُبِينُ ٩٢﴾[المائدة: 92]، إلى غير ذلك من الآيات البينَّات الواضحات الدلالة.
ومن تلك الأدلة قول الله
تعالى: ﴿وَمَآ
ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ
وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٧﴾[الحشر: 7].
يقول الشَّيخ
محمَّد محمَّد أبو شهبة: [وقد اتفق
العلماء الذين يعتد بهم على حُجيَّة السُّنة، سواء منها ما كان على سبيل البيان أو
على سبيل الاستقلال، قال الإمام الشَّوكاني: (إنَّ ثبوت حُجيَّة السُّنة المطهرة
واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في
الإسلام)، وصدق الشَّوكاني فإنَّه لم يخالف في الاحتجاج بالسُّنة إلا الخوارج والرَّوافض،
فقد تمسكوا بظاهر القرآن وأهملوا السُّنن، فضلوا وأضلوا، وحادوا عن الصِّراط
المستقيم].([1])
وقد أمرنا الله تعالى في
كتابه العزيز، إذا ما تنازعنا في أمر أشكل علينا، أو أبهم علينا، أن نردَّه إلى
كتاب الله تعالى، ونرده لسُّنة سيِّدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال تعالى:
﴿يَٰٓأَيُّهَا
ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي
ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ
إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ
ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩﴾[النساء: 59]، ولو كان الأمر كما زعموا، فلمَ يأمُرنا الله تعالى، إذا تنازعنا في أمر
نرده إلى سنة رسوله، وكان يكتفي برده لكتابه تعالى.
يقول الحافظ
السيوطي -رحمه الله-: [ثمَّ أخرج
الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ عَن مَيْمُون بن مهْرَان فِي قَوْله: {فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قَالُوا: الرَّد
إِلَى الله: إِلَى كِتَابه، وَالرَّدّ إِلَى الرَّسُول -صلى الله تَعَالَى
عَلَيْهِ وَآله وَسلم- إِذا قبض: إِلَى سنته. ثمَّ أورد الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث
أبي دَاوُد عَن أبي رَافع قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((لَا
أَلفَيْنِ أحدًا مُتكئا على أريكة يَأْتِيهِ الْأَمر من أَمْرِي مِمَّا أمرت بِهِ
أَو نهيت عَنهُ فَيَقُول: لَا نَدْرِي مَا وجدنَا فِي كتاب الله اتبعناه)). قَالَ
الشَّافِعِي: وَفِي هَذَا تثبيت الْخَبَر عَن رَسُول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وإعلامهم
أَنه لَازم لَهُم، وَإِن لم يَجدوا فِيهِ نصا فِي كتاب الله].([2])
وقد أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أن نتمسك بكتاب الله وبسنته الشَّريفة، وأن نعتصم بهما ومن اعتصم
بهما في كل شئونه فلا يضل ولا يشقى.
وفي ذلك يقول الشَّيخ محمد
أبو شهبة -رحمه الله-: [وروى الحاكم عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أنَّ
النَّبِي -صلى الله عليه وآله وسلم- خطب في حُجَّة الوداع فقال: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ
أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ، وَلَكِنْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ
مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَمْرِكُمْ فَاحْذَرُوا، إِنِّي تَرَكْتُ مَا إِنِ
اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ
نَبِيِّهِ)). وروى مثله الإمام مالك في " الموطأ ". ، وهي صريحة في أنَّ
السُّنة كالكتاب يجب الرجوع إليها في استنباط الأحكام وقد أجمع الصحابة -رِضْوَانُ
اللهِ عَلَيْهِمْ- على الاحتجاج بالسُنن والأحاديث والعمل بها ولو لم يكن لها أصل
على الخصوص في القرآن ولم نعلم أحداً خالف ذلك قط، فكان الواحد منهم إذا عرض له
أمر طلب حكمه في كتاب الله، فإن لم يجده طلبه في السُّنة، فإن لم يجده اجتهد في
حدود القرآن والسُّنة وأصول الشريعة، وقد وضع لهم النَّبِي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا الأساس القويم بإقراره لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فقد قال له:
((بِمَ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ قَضَاءٌ؟ )) قَالَ: (بِكِتَابِ اللَّهِ). قَالَ: ((فَإِنْ
لَمْ تَجِدْ؟ )) قَالَ: (بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-). قَالَ: ((فَإِنْ
لَمْ تَجِدْ؟ )) قَالَ: (أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو). فَضَرَبَ رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- صَدْرَهُ وَقَالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، وقد فهم
الصحابة رجوع جميع ما جاءت به السُّنة إلى القرآن من قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}]. ([3])
ثالثا: أما
عن استدلال من ينكر حُجيَّة السُّنة بقول الله تعالى: ﴿ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ
إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا
مَّا تَذَكَّرُونَ ٣﴾[الأعراف: 3]، المقصود
من (المُنزَّل) (بضم الميم) في قوله تعالى: ﴿ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم
مِّن رَّبِّكُم﴾ هو القرآن والسُّنة، وقد ذكر هذا عامة المفسِّرين عند تفسيرهم
لهذه الآية، فيقول الإمام فخر الدِّين الرَّازي -رحمه الله- في: مفاتيح الغيب":
[اعلم أنَّ أمرّ الرِّسالة إنما يتم بالمرسل وهو الله
والمرسل وهو الرَّسول والمرسل إليه وهو الأمَّة، فلما أمر في الآية الأولى الرَّسول
بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي وعزم صحيح أمر المرسل إليه وهم الأمة بمتابعة الرسول
فقال: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الحسن: يا
ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله. . . ([4])
وكذلك قال الإمام البيضاوي –رحمه
الله- في "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" أن التنزيل في الآية يعم
الكتاب والسُّنة فقال: [{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}
يعم القرآن والسُّنة لقوله -I-: {وَما
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى}، {وَلا تَتَّبِعُوا
مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ} يضلونكم مّنَ الجن والإِنس].([5])
وأما عن استدلالهم بقول
الله تعالى: ﴿أَوَلَمۡ
يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن
شَيۡءٖ
وَأَنۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقۡتَرَبَ أَجَلُهُمۡۖ فَبِأَيِّ حَدِيثِۢ
بَعۡدَهُۥ يُؤۡمِنُونَ ١٨٥﴾[الأعراف: 185]،
وزعمهم أنَّ هذه الآية الكريمة، تدل الاكتفاء بحُجيَّة كتاب الله تعالى، وعدم حُجيَّة
السُّنة النَّبوية، على حد زعمهم، فهذا فهم سقيم لكتاب الله تعالى، وتحميل النَّص
القرآني ما لم يحتمل، ولا يدل على ما فهموا منه، فقد جاء في تفسير هذه الآية عند
الحافظ بن كثير فقال: [وَقَوْلُهُ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}؟
يَقُولُ: فَبِأَيِّ تَخْوِيفٍ وَتَحْذِيرٍ وَتَرْهِيبٍ -بَعْدَ تَحْذِيرِ
مُحَمَّدٍ وَتَرْهِيبِهِ، الَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي آيِ
كِتَابِهِ -يُصَدِّقُونَ، إِنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي
جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، -عَزَّ وَجَلَّ-؟! ]([6])،
فليس معنى قوله تعالى: {فَبِأَيِّ
حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} ما زعمه أولي
الأفهام السقيمة، أنَّ الاستفهام الإنكاري هنا
المقصود به سنة الرَّسول-صلى الله عليه وآله وسلم- فلا يقول بهذا من به بقية من عقل، لأنَّ سياق الآية الكريمة لا يدل على
زعمهم، ولا على ما فهموه منها.
والخلاصة: ممَّا سبق يتبين أنَّ استدلال منكري حُجيَّة السُّنة
بما فهموه من تلك الآيتين الكريمتين، فهو معوج، لأنَّ الله تعالى نص في كثير من
آيات الذِّكر الحكيم على طاعة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بل قرن
طاعته بطاعته في أكثر من موضع من كتاب الله، وقد دلت السُّنة النبوية على التمسك بالسُّنة،
وأنَّ التمسك بكتاب الله وبسُّنة رسول الله حفظ للإنسان من الزيغ والضلال.